لو أنهم يتركوننا و شأننا يا ليل

 أريد أن أقوم بعملي. هذا كل ما أريده. أريد أن أستيقظ صباحًا و أتجرع القهوة السوداء بلا سكر على عجل ثم ابدأ العمل من فوري.

لا أريد تشريفًا ولا تعظيمًا. لا أحتاج المساعدة من أحد. سأفعل كل شيء وحدي كما اعتدت منذ سنوات في صمت القبور. لا أحتاج نياشينًا ولا أنواطًا. لا أُُعرف نفسي كجيشٍ أبيض ولا بلى أزرق. لا أريد منصةً ولا إضاءات. أريد فقط أن أُترَك و شأني لأقوم بعملي.

كل هذا التصفيق و الزعيق يحرمني الشيء الوحيد الذي لا أستطيع العيش بدونه — الصمت.

يبدو هذا مطلبًا ساذجًا للغاية، بسيطًا لدرجة العته. إلا أنه غير قابل للتحقيق.. أعلم ذلك

دعوني أخبركم سرًا لطيفًا. إننا لسنا أبطالًا على الإطلاق. و صدقني عندما أقول لك -على العكس من المتوقع- إننا لا نرغب في ذلك بالكليّة. هذه المعاطف البيضاء اختارت منذ سن السابعة عشرة تقريبًا -بعلمٍ أو بدون علم- أن تحمل خراء البشرية في صمت تام و تعتبره واجبًا و شرفًا في ذاته. المسألة ليس لها أي علاقة بالاستشهاد — نحن فقط نحب حمل الخراء.

إننا نطلب شيئًا واحدًا بالمقابل. أن نحمل كل هذا الخراء بصمت. و عندما نطلب أن تفسحوا لنا الطريق كي لا يطال أحدكم أن تفعلوا ذلك بدون مناقشة. لإننا نحمل الخراء. الخراء قادم.. وسع سكة يا عم للخرة

إن أي مطالبات بإصلاح الحال أو المساعدات لن تجدي نفعًا. لإننا بعد كل شيء – دعني إعدل ذلك لإنكم بعد كل شيء- بشر لن تحبوا تبعات ذلك كله من حمل الخراء. و من تجعلونه بطلًا أول النهار ستتبرزون على وجهه آخره. فما الداع إذن؟ ما الداع لكل هذا الهراء؟

لدينا رسالة قصيرة و فعالة جدا اليوم. ابقوا بالمنزل. لا يهمنا ما تفعلون هناك. لن نستطيع أن نخبركم أن الأيام القادمة إيجابية و مبشرة  لأن الأيام لم تكن كذلك على هذه الرقعة من الكوكب خلال الآلاف السبعة السابقة من السنين. سيكون استنتاجًا عبيطًا.

لا تتحدثوا عن إمكانيات القطاع الصحي، ولا عن أجور الأطباء، ولا عن الصناعات الصحية و الخدمات الداعمة. لا تتحدثوا عن البحث العلمي، ولا عن رد الجميل. لا تتحدثوا على الإطلاق. أسكتوا عنّا تمامًا و ابقوا بالمنزل اللعين. و دعونا نعمل بما أوتينا صامتين.

أنقر هذه الكلمات الأخيرة و الصداع النصفي ينخر شقي الأيسر المحروم من الكافيين و التبغ في نهاية الساعة الثانية عشرة من مناوبة ليلية بلا وفيّات. سأسلم العمل في الساعة القادمة لشخص آخر متخم بالكافيين و التبغ و يحب حمل الخراء مثلي.

وصيتي إن مت قريبًا أن تصمتوا، و تتنيلوا تقعدوا ف البيت

محجوب عبد الدايم

لندن

2020

الموت يُغيُّر كل شيء

الموت يغير كل شيء

هو يعلم هذه الأشياء جيدًا. كنت أقف أعلى سلم مسجد السلام مشاهدًا الحشد الجنائزي و سيارة حمل الموتى تكافح باستماتة لتغير اتجاهها بينما تصر الشاحنة المحملة بالجاموس المذهول أبدًا على المرور عنوة وسط مئات المشيعين، و أحد المشيعين يصر بشكل عجيب أن يدس رأسه داخل السيارة ليبكي داخلها بينما تتحرك مئات الأذرع بعصبية لتصف للسائق أي الطرق يتخذ للمقابر. هززت رأسي موافقًا على تعليقاته اللاذعة التي كان يهمسها لي و هو يسخر كالمعتاد من كل شيء. كان صوته رائقًا يتحدث بلا هم تقريبًا و يضحك بين كل كلمتين. التفتُّ إليه و لم اجده و نظرت جيدًا لعربة حمل الموتى و أشحت بوجهي عن كل من أعرف و انصرفت.

أعلم أن كل من قرأ للسيد توفيق صار في علاقة حميمة جدًا مع الرجل حتى دون أن يراه. علاقات أبوية عديدة من طرف واحد في رأس أصحابها. أنا لم أنج تمامًا من ذلك… أنا الإبن العاق للسيد توفيق. عبد الوهاب عبد الغفور البرعي إن شئتم. الرجل يحيى في اللاوعي الخاص بي طوال الوقت و أسمع أفكاري بصوته و نبرته و اتشاجر معه في كل صغيرة و كبيرة و أركل و أسُب بالدين و الميّتين و انفعل حتى تنفجر أوردة رقبتي احتقانًا أثناء حواراتنا الداخلية لكي لا أعيش في جلبابه الذي ولدت به.

إلا أن الموت يغير كل شيء يا سيدي

دقات الساعة تشير إلى الحادية عشرة و ثلاث و أربعين دقيقة.. رسلان يجلس عن يساري و أنس السلطان عن يميني و طنين مستمر يملأ باحة المسجد غليظًا سميكًا يسد الحواس تمامًا و أنا انتظر خَدِرًا. دقات الساعة تشير إلى الحادية عشرة و تسعٍ و خمسين دقيقة… الطنين ينحسر تدريجيًا و يتلاشى في اللاشيء. أذناي باردتان و وجهي يشتعل ولا أرى كل من كان معي. يقوم الناس فيقيموني، و يقعدوا فيُقعدوني معهم. كان نشيجي مُباغتًا و يبعث على الغيظ. أنا أدعوه السيد توفيق منذ عدة سنوات لكي لا أحبه. لم أجد ما أدعو له به سوى أن يطمئن الله قلبه ولا يجعل للخوف عليه من سبيل في ليلته تلك. أما عن المغفرة و الصبر و غير ذلك مما يُدعى به لم يحضرني… كنت هَلِعًا حتى النخاع و كنت أدعو لنفسي مختفيًا تحت ردائه كالمعتاد.

سيقول السفهاء… هو أيضًا يعلم هذه الأشياء. و ستأتي آلاف لا تعرفه ولا تأبه لعصارة عمره التي أفرغها حبرًا. و سيندثر كالديناصورات العتيقة كما سنندثر جميعًا، و هو لا يلقي بالًا لخلود أجوف لا يؤمن به و لربما سخر من اللحظات العابرة المعبأة بالمشاعر أيضًا. لكنه معي الآن. يجلس عن يساري و يعلق على اخطائي النحوية المخجلة و يدخن بلا ضير و هو يشاهد وثائقيًا عن الأعاصير على شاشة تلفازي الجديد.

هو معي و يقول لكم ما تحرقوش بنزين كتير… الحياة قصيرة جدا.. أقصر كثيرًا من أعوامه الستة و خمسين المكتظة. ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة و البعير و الغباء المنقطع النظير و ترجعوا به إلى رحالكم؟

استقيموا يرحمكم الله.

“أحمد خالد توفيق—جعل الشباب يقرأون.. و يكتبون، و يضحكون، و يبكون، و يشعرون، و ينفعلون، و يثورون، و يؤمنون”.

حياة طيبة

كان الضوء فَزِعًا. ضوء المقهى الحميمي الأصفر ذاك. كان يرتد في هلع عن القدح و الصحن و ساعتي المتوقفة منذ سنة المستلقية في دَعة بجوار هاتفي المحمول و يقع على جلدي البارد فأجد له وقع بلل غريب. عيناي زائغتان ترقبان المنضدة في شرود، و عيناه متعبتان.. متعبتان للغاية.

يداعبني “لقد كان هذا عامًا طويلًا، أليس كذلك؟”

أنظر إليه طويلًا و اتساءل.. هل سنذكره حقًا؟ على طوله و ما حدث به.. هل سنذكر كل شيء؟ لا أظن.. أظنه سينصهر مع 2015. لم أعد أدري في أي عام نحن. تمنينا أن يعود بنا الزمن إلى 2011 حين بدأ كل خطأ … حين كنا نذكر كل عام بما حدث فيه. منذ ذلك الحين أصبح كل شيء ضبابيًا… لحمة واحدة من الكينونة التي لا أول لها ولا آخر ولا وسط. موجودون كالسحاب… كالسحاب تمامًا… نظن أننا نرى كل شيء بعين الطائر و أن لدينا من الوعي ما ليس لأحد.. لكننا لسنا بعيدون حقًا، ولا نملك من أمرنا شيئًا بالكلية… مشتتون… و بلا وزن تقريبًا.

و لكنها حياة طيبة.

إننا نعي اليوم أن الجميع يتساقط باضطراد.. و نتلفت يوميًا لنشاهدهم واحدًا تلو الآخر كالسحاب… نستمر في التحليق المُثقل و مدافعة الأيام بأيدِ واهنة متقرحة القبضات و الطفو الشارد فوق ما يحدث لنا

لإنه لا يوجد لدينا ما نشكو منه

لإنها حقًا حياة طيبة.

الجاثوم

download

” الجاثوم قائم… ما زال يضغط بثقله على كل شيء. و كل محاولات الصبر و الاستجداء و المُجالدة و التخلص من قطع ضخمة من أنفسنا لكي ننسلِت من تحت براثنه بفُتات بشر باءت بالفشل. الجاثوم ضمني… يطبق على أعناقنا من الداخل… لا يد تمنعه.. لا أحد يراه… ولا فكاك. الجاثوم مزغب… كبطن جرذ ضخم قذر يلتف تحت جلودنا… تنسحق تحته المروءة و الشجاعة كمَعاصم الفتيات الدقيقة في أيدي الغيلان.”

المسوخ التي باتت تحتل اجسادنا اليوم لن تجيد الكتابة عن علاء عبد الفتاح ولا عن غيره. سنُجيد التصنع و ادعاء المرح. سنُجيد التأقلم داخل الزيت المغلي بصمت. سنُجيد الهتاف الأجوف. لكننا لن نجيد الكتابة.

الجدوى … ما الجدوى من أي شيء؟ من الفعل بلا حلم؟ ما الجدوى من كل ما يجري؟ ما الجدوى في أن أتذكر بداية كل شيء؟ أن أتذكر الرحلة؟ و أن أصف كل لفتة؟ من الذعر؟

اتقلّب كل يوم في بحيرة ضيقة من الحيرة اللزجة التي تشل قدرتي على التنفس. ماذا أقول لأطفال لم أنجبهم عن العدل؟ عن الشهادة؟ ماذا أعلمهم؟ ماذا أطعمهم؟

الرب يرضى عن ذلك. الرب بالتأكيد يرضى عن ذلك… هذا الجحيم الأرضي به الكثير من مذاق يد الرب الغاضب. الرب لا يأبه … و نحن لا نستحق. جعبة الرب ما زالت تحوي الكثير.. صنوفٌ من العذاب ستأتي… ملعونين أينما ثٌقفنا لعنة أهل آخر الزمان… لا نأمن لأحلامنا ولا نؤمن بها.. إلى الأبد.

موتى تقتلون موتى… عليكم بالرضا العنين… ارضوا عن أنفسكم و أقداركم… انكم ميتون على كل حال.

 

هذا أيضا سيمر

ربما لا تجد هذه السطور طريقها إليك… بل الأجدر بها ألا تفعل.

صباحُ الخير

ما زال التحديق في الورقة البيضاء يربكني كثيرًا. بعض الأشياء لا يتغير. الأشياء تستبين ولا تتغير حقًا على كل حال. السرد يستعصي من دون المخدر، أجل لا زلت أتعاطى الاشياء و الأشخاص منذ رحيلك المباغت. لا فائدة من هز كتفي بلا مبالاة في ظلمة الحجرة التي لم يجرحها خيط الفجر بعد.

اليوم يبدو مهيئًا للنهايات. هكذا أصبح شباط من كل عام. أستيقظ يوميًا و ابتسم ببلاهة و أنا أقول لنفسي احزم أمتعتك! اقترب الرحيل! ماذا ستتعلم هذه المرة؟

بِتُّ أعلم أننا لسنا جيدين على الإطلاق عندما تعرفنا عن قرب. ليس هناك إلا ما ترى عن بعد، و ما وراء ذلك هراء. و لو أننا تركنا التعصّب و الذاتية جانبًا لأدركنا أننا لسنا منيعين لأي شيء على الإطلاق. إننا لا نعاف شيئًا. أعلم ذلك الآن لأننا ما زلنا هنا بعد أن رحلتِ. تلك الماكينة التي تنتقي بعناية أكثر الأشكال الحية قدرة على التكيف مع القرف تركتنا هنا. صرنا أكبر من اللازم؛ حتى أن التعرض لتجربة الجديد في حد ذاته صار أمرًا مكرورًا معتادًا للغاية.

أتحدث بصيغة الجمع لأبدو أقل بشاعة… لأبدو جزءًا من كلٍ قبيح.

بالأمس وقفت متكئًا أدخن سيجارًا للمرة الأولى و أرقب ذؤابته بحزن و هي تصدر قرقعة خافتة كعظام روحي. أثار ذلك ابتسامي إذ تذكرت لقاءً أخيرًا ما. “هذا أيضًا سيمُر” هكذا ودعتني. و تلقفت أنا الكلمات برهبة الوحي. و صرت نبي الـ “هذا أيضًا سيمُر” تلك. أتلوها ليلًا و نهارًا، أبشر بها و أنشرها. كنت “هذا أيضًا سيمُر” تمشي على قدمين، و أنا أعلم يقينًا أن “رعبًا أكبر من هذا سوف يجيء”.

إننا ننقضي يوميًا شيئًا فشيئًا، ولا يتبقى منا إلا قدر استهانتنا بهذا الرعب المُحيق. نخفي بحرص شديد تلك الكائنات التي لا تستطيع فكاكًا من براثن الحب، أو الرعب، أو كليهما، نطمس أعينها و نقبرها كل صباح لإن ذلك ليس من القوة بمكان، ليس من الحصافة، ليس من الأناقة أيضًا. نبتلع صرخات الاستغاثة المبحوحة مع قدح القهوة المرّ و نحن نزكم أنوفنا برائحة الأشياء… الأشياء التي نقيس بها السعادة سريعة التحضير التي نتعاطاها. نرتدي غُلالة من الثقة غريبة الصنع لتعيننا على قضاء حوائج لا نحتاجها حقًا.

أنا لا أعلم لم كل هذا الفقد. أنا لم أعد أذكر شيئًا لأفتقده.

لعله هواء شُباط.

أو لعله الهواء.. أحتاج إلى الهواء.

سِنَة

-3-

كانت السماء تنسكب على الأفق المالح في دَعةٍ و سيولة ذات خرير خافت غليظ في نهار هذا اليوم من أيام نيسان الوديع. سرنا نتطوح من أثر ريحٍ ثرثارة لعوب تدفعنا دفعًا للالتصاق ببعضنا البعض بخبث دؤوب. كنت مأخوذًا بآثار انغراس قدميها الصغيرتين بالرمال الساخنة لم تزل، ترسم أحاجي طفليّة في كل خطوة عثراء و هي تتشبث بذراعي ضاحكة أحيانًا و شاردةً أحيانًا أخرى، كنت منشغلًا تماما بالرسم عن انصهار قرص الشمس و الظلال الرمادية التي أحاطتنا بلا اكتراث، و هدر الموج المتتابع عن يميني، و عصف نفسي، و زخّات النظرات التي حدّست أنها تهطل علينا من أركان غير موجودة في هذا الفضاء الفسيح.

تداعينا على الكراسي البلاستيكية البيضاء في كنف ثنية الشاطئ المحتشد بكل شيء عدا البشر. مددت عنقي بألفة و طرحت رأسي الثقيل المثقل الذي يفسد كل شيء على كتفها الضيق فاتسع له. و حركت عيني متسلقًا عنقها الفسيح النابض حتى أعلى ذقنها لتربت عليهما ابتسامة مكتظة، فأزحتهما إلى الأفق و صرت أحكي بشغف.

تابعت مثابرة الموج الحثيث و خيبته السيزيفية الأزلية الانكسار، و حكيت انطباعي عنه دون أن أنظر حقًا. حكيت عن حب الطفولة. عن طفلة نحيلة باهتة كالثلج منحرفة العينين، معقوصة الشعر الجاف بلا هم، تجلس في مقدمة الصف الأوسط دائما بجوار توأمها الغير متماثل لتجيب عن كل اسئلة العالم بعينين متسعتين و غمازتين لا تكلًان عن إرهاق أنفاسي المبهورة دائمًا، عن رعشة كفي إذ يحتضن كفها الطفلة في طابور الصباح، و طرفتها التي ما زلت أذكر عن محادثات رابين.

كنت اقص عن مدرس الرياضيات فارع الطول ذي الشارب القصير و المدير الذي يبدو لأول وهلة كحرف الآر الكبيرة بالانجليزية لعظم كرشه و هي تحتضن ذراعي كاملًا إلى صدرها و تعتصر كفي بقوة أقرب إلى العنف الشهواني، كشفتين يافعتين تعتصران قطرات الحياة من نهد كليل. صارت أصابعي تغوص بعمق بين ثناياها، تدور و تركن و لا تفر. و رأسي الثقيل الذي يفسد كل شيء لم يزل يفسد هندامها و يداعب قاعدة عنقها باهتمام. و الهواء الخفيف يملأ صدري و يغادره مكدسًا بكل ما لا أقول. تستمع بحفاوة أمومية و تعبث بمقدمة شعري، و تروي أشياء ولا تحكي ما تريد كل الوقت.

عيناها البنيتان اللتان تتسعان لكل شيء تعلمان. تعلمان أكثر من اللازم. ولا تتوقفان عن الطلب، عن البذل، و لا عن الهدر الموَبِّخ لخواء روحي. أطبق عيني بضعف غير مقصود و تأخذني سِنَة من الخِدر.

و أراني، بركن فراش قديم متكوّرًا، و النور البارد ينفذ من طيّات أغطية النافذة الكالحة، و يتبدد قبل أن يطأ أي شيء بالغرفة الضيقة، تمامًا كأحلامي الضالة. اتحرك برتابة منحنيًا على نفسي مع إيقاع المُكيّف المهترئ، و أدعو، و أنشج، و اتوَفّز بلا نهاية. أتحسس ضلوعي بشكل قهري و أبحث عن نبضي و تختنق في حلقي صرخة لا تنبجس. أحادي الأبعاد، بلا ظل، ولا صوت. نقطة في الأبدية الرمادية. نقطة لا تجد حدودها.

و ينهار تحتي الفراش و أهوي طبقات من الصمت المكدس. ثم تأتي الطرقات، تدور و تضيق و تتسع و تنحني على نفسها ولا تنتهي أبدًا، بلا خيار واحد، تلقيني لبعضها بسلاسة و عجرفة. و أجدني أحمل طفلة سمينة ضاحكة تحذرني من الشيطان حول المنعطف القادم. و أطالعه و ينظر في روحي و يطأها بعينيه وطء المجتهد لسِنّه و سمعته. و أشهق متلمظًا و أدفع بلا دفاع.

تنفتح عيني على شلال ساخن من الأنفاس الملتهبة تضرب وجنتي و أعلى أنفي. تُجيل شفتيها بلا احتراز فوقي كأنها تتنزه، و تنتظر بلا انتظار. و الشمس قد غاصت محترقة في الأبد، و هواء الليل أقل حدة و أكثر عطفًا، يحمل من الشتاء الماضي علامة لا تنكر، مثلي تمامًا.

حدوتة ميلتون فريدمان

panic

” وحدها الكوارث –حقيقية أو مُتخيّلة- يمكنها تحقيق تغيير حقيقي. عندما تقع الكارثة ستعتمد القرارات المُتخذة حينها على الأفكار المطروحة مسبقًا. و هذه على ما أظن وظيفتنا الأساسية: أن نطور بدائل للسياسات الحالية و نحافظ عليها حيّة و متاحة حتى يصبح المستحيل سياسيًا أمرًا لا مفر منه” – ميلتون فريدمان.

لا شيء مريب هنا، أليس كذلك؟ هذا الاستقطاب المجتمعي بين الأطباء و “أغيارهم” لا يثير الريبة. هذا الطرق الإعلامي المحموم في كل اتجاه لا يشي بشيء مألوف؟

الهبد المتعمد على أعصاب الأطباء المهترئة اهتراءً مزمنًا، اقتطاع رواتبهم، تعسيفهم في الترقيات و التعليم الطبي المستمر، الحط من شأن شهاداتهم، اجبارهم على العمل ساعات غير آدمية، و التعدي الجسدي و اللفظي عليهم، شيطنتهم إعلاميًا لإبراز مدى عدم كفائتهم و استهتارهم بـ” أرواح الناس”. أي غرض يخدم؟

من أول “خلي الست الوالدة تقف في الاستقبال” لحد “أصله الفقرا و الجرابيع هما اللي بيجيبوا مجاميع” يستمر التراشق و تتدحرج كرة الثلج على الجميع في اتجاه واحد محتوم. الكل يدفع لصدام عنيف مستحَق تمامًا و يتلاعب برغبات الناس الأكثر “أساسية” في “العيش الكريم” بمنتهى اليسر .. الأطباء و غيرهم.. في النهاية ناس.

تلوي الحكومة عنق النقابة بصلف مريب في اتجاه إضراب كلي و تضغط كل الأزرار على أمل أن تحدث أزمة طبية حادة –على عكس الأزمة المزمنة الكارثية أصلا. تستمر بالضغط و شيطنة الأطباء إعلاميًا و في الشارع. الأطباء لا يحتاجون كل هذا الهراء.. استقالات جماعية… العمل الخاص.. انهيار القطاع الصحي بالجملة..

أزمة…

هنا نطرح خصخصة القطاع بالكامل. و تأمين صحي جديد. و أنظمة جديدة للتقييم الطبي. و لن يمكنك الاعتراض أو حتى تقييم العرض الجاهز مسبقًا. سيكون حلًا مُرحبًا به من الجميع. الأطباء سيجدون أخيرًا دخلًا مناسبًا- سيفقدون أكثر من نصفه على كل حال مع شركات التأمين الوافدة الجديدة- و المواطنون .. حسنًا .. المواطنون هايتفشخوا برضه.. و لكنهم سيشعرون بالرضا المؤقت و شماتة غير مبررة على الإطلاق . هذا هو الدور الرسمي للدجاج المرعوب على كل حال.

لماذا أحكي كل هذا الهراء؟ نحن نعلم مسبقًا أننا جنود على رقعة شطرنج لا نديرها، ولا نتحكم في لون المربع الذي نسقط عليه في النقلة القادمة. البنك الدولي و صندوق النقد يحصلان دائمًا على ما يريدان. و في العالم الجديد يمكنك أن ترتقي الحكم على ظهر الدبابات و لديك ظهير شعبي عريض… يمكنك أيضًا أن تضطر الناس أن يبيعوا أكبادهم فقرًا و هم يصفقون.. كل ما يلزمك لذلك أزمة تجعلهم أطفالًا هَلِعين.

أزمة واحدة.

طظ

نسيت احكي حدوتة ميلتون فريدمان… مش مهم.. بلا فرهدة.

و … هدف

9-tips-taruhan-bola

هناك شيء مريح للنفس في رحلات القطار بتلك التؤدة و القدرية المحسومة المطمئنة التي تمضي بها. في نهايتها أجد رأسي فارغًا تمامًا و قد طرح كل ما فيه، و أصبح مكتظًا بهواء خفيف مالح الطعم، و استعداد لبدء جديد.

في المرحلة الابتدائية و ما قبلها كنت طفلًا تامَّ الاستدارة. و لما كنا نلعب كرة القدم في حصص الألعاب و في الشارع اعتدت ألا يختارني أحد. لأسباب واضحة طبعًا فأنا لا أجيد الجري ولا المراوغة و سأكون عبئًا بشكل ما على فريقي. كنت ابقى للنهاية لأكون آخر من ينضم أو حارس مرمى للجميع.. أحيانًا كانوا يجعلون مني حكمًا للتخلص مني. إلا أنني كنت ألعب. غير عابئٍ بدلالات الحدث كنت استشهد في أرض الملعب، أعدو حتى ينشطر قلبي نصفين، و أصرخ باستمرار حتى يُبَحَّ صوتي من أجل التمريرة التي لا تجيئ أبدًا، و أقع مرارًا و أقطع ركبتيّ و أُلوِّث ملابسي كل مرة.

لم يأتِ هدفي الأول إلا قبل نهاية المرحلة الإعدادية بعدة أشهر. جاء حاملًا كل الملحمية الممكنة. الكرة البينية تخطئ طريقها إليّ، اضعها بكعبي بين ساقيّ الحارس بمنتهى الهدوء في نهاية الحصة تمامًا لإنهي التعادل القائم. هكذا… بمنتهى البساطة.

بالطبع كنت فرحًا. صرخات القتال التي أطلقتها، و حملي لباقي أفراد الفريق على كتفي –كنت ما زلت بدينًا و لن يحملني أحد- يشهدان أني كنت فرحًا. في الأيام التالية سمعت بأذنيّ مرارًا قصة الهدف تتكرر بعدم تصديق و انبهار لا يفتران. صرت أكثر ثقةً و اعتدادًا. و لكني بقيت كما أنا… لا يختارني أحد، و استمر باللعب.

في النهاية عندما يخبو مني النور، أو يُداخلني النور –لا أعلم بعد- سأكون على أغلب الأحوال راضيًا عن كل شيء. قضيت فترة لا بأس بها على هذه الأرض و عشت كما لم يعش أغلب الناس. كنت قديسًا و إبليسًا، مليحًا و قبيحًا، لاعب نرد و حامل كتاب، ضاحكًا مُبكيًا. أحببت كل حب ممكن بكل ما أوتيت من قلب. كنت محظوظًا جدًا على كل حال. فقد وجدت من وهبني الحياة بكامل سمكها، بكل ثنية و حافة، بغلظة و رقة، ساخنة رطبة و ضاغطة. عبرت فوق الخيبات على أطراف أصابعي تارّة، و مسحوبًا على وجهي تارّة أخرى. كنت بشريًّا كاملَ التحقق بكل ادعاء و نقيصة، لم أقض الأيام باحثًا عن فراغ لا يمكن سده أو حزينًا من أجل ضربة فرشاة خرقاء “أفسدت” اللوحة. كنت أطارد فراشات الأحلام بعبث و اجتهاد معًا، و أحب الانطراح أرضًا منقطع الأنفاس من فرط العدو و الضحك بعد أن تهرب. كانت دائمًا تهرب، و كنت دائمًا استمر باللعب.

لإنك لا تعلم أبدًا متى تأتي تلك البينية الخاطئة.

متسللة

normal_scribbles2

تجدين في ركن الورقة البيضاء رسومًا و إشاراتٍ غيرَ ذات مغزى. ظلال و حواف تنسدل بلا هدفٍ واضح. رسم بلا نقطة أفق، ولا مصدر ضوء. فقط خطوط رمادية منسكبة بلا أي مشهدية. ربما لا تعني شيئًا الآن. ربما تعني شيئًا يومًا ما.

أجلس على ظهر بيتي المنحشر في وجود المدينة العشوائي و أحدق في أفق معماري هيستيري الصلادة و القسوة. تتلاحم طبقات المعمار حولي و تتكدس حوافها السوداء كأمعاء وحش ميكانيكي أزلي. و أراني و هُم نرقد متجاورين كآحاد السردين المتفسخ المتراكم في جوف الوحش. نتحرك في المكان ببطء، يحيطنا السخام في عالم يزداد محدودية تجعل حتى السخرية منه أمرًا ذا ظلٍ رصاصي مصمت مختنق.

عمرٌ يستعصي على الحكي. الأشياء لا تنحكي من تلقاء نفسها بلا مصدر ضوء… بلا منظور.

أنا لا أذكر متى طالبت السماء باهتمامك أو لوحتُ لك بالخيال. ربما خايلتني قبلةٌ بيني و بيني. لم أكن أعلم أنك ستنهالين علي كشمس تشرين. تتسلقين ظهري الأشعث المنحني الذي صرت أوليه كل شيءٍ بجدارة و تغرسين نفسك بين عطفتيّ روح متكلسة ليشرق منها كل شيء. لتنتهي الظلال هنا إلى الأبد.

ربما يكون الوقت الذي نستغرقه في عدم التصديق عندما تنهار كل تلك الظلال كقصور ورق اللعب وقتًا لا نملكه.

و لعله من الأحرى بي أن أقضيه مستمعًا لصدى صوتك الذي يبدد كل شك. لأحفر بذاكرتي طريقة نطقك للأشياء، و أتذوق نظرتك للعالم كبديل صحي جدًا عن العوار الذي اكتنفني لعقدين متتاليين. أو أقضيه متفحصًا خطوط كفك و انصراف الظل عنها كالمهاجر. أو انحسار شفتيك عن ثغر يعرف تمامًا كيف يثير الفرح.

في لحظات كتلك، أمشي بين الموتى خفيفًا، منيعًا، مستعصيًا على القتل اليومي. لا تداخلني الأسئلة، و تغمرني الجمل الخبرية بالطمأنينة المقترة. في لحظات كتلك، ليس علي ولا عليك من حرج.

سيظل أثر مرورك هنا يلطم الوحش الميكانيكي على وجهه كل يوم و يحطم ما بقي له من أسنان. و يجعل للرسوم و الإشارات في ركن الورقة قصة تُروى.

سيظل أثر مرورك هنا يبعث على الحكي.

قمامة

دعيني أجمع فتات المائدة…

لم تعد تروقني كل تلك الموائد العامرة بوجباتها التي تبدو كإنجاز ساحق. لم تعد تروقني، و لم تناسبني أبدًا من قبل. أنا لست من السادة المهندمين الذين تليق بهم كل تلك الحفاوة. بعض الحفاوة ضير.

كل تلك الصعلكة نفذت إلى عظامي اليوم، و نحتت قسماتٍ جديدةً لوجهي. علقت أجنحتي المهترئة بجوار هياكلي العظمية المكدسة في خزانة القبو. و رحلت عنه و صرت أنا.

بِتُّ أعلم تمامًا أنه لا أحد يرغب أو حتى يمكنه احتمال كل ما هو أنا اليوم. كل تلك الحماقات و الترهات أثقل من عاتق كائن واحد. و كل تلك العوالم التي تختزن نفسها في لوني تثقل الروح. فليأخذ كل منكم قدر طاقته، و ليرحل مُمتنًّا له.

أما أنا فقد وجدت ضالتي في بقايا الأشياء. قضمةُ هنا، رشفة هناك… أقوم خفيفًا ولا امتلئ. سيغمرني هذا الرضا الهش الذي يجرحه كل عارض و تهتكه رغبة بشرية ملحة في الحزن و الشعور بالاستشهاد. سأحتفظ به جيدًا. سأبحث عن الرضا في شطيرة ساخنة، و قعر كوب قهوة، و علاقة مبتترة، و نسمة اصطناعية من ثغر مكيّف متهالك.

سأترك هذا العشم و الشعور الكامل بالاستحقاق للراغبين فيه من المستمسكين بالقديسية و أنصاف الآلهة. هؤلاء القادرون المقتدرون الذين يحتفظون بخزائنهم نظيفة إلا من الإنجازات الكاملة. من تكسرهم الخيبات و يفزعهم الفقد حد الجنون. فأنا راحلٌ لا محالة. سيتساقط عني كل شيء، و سأسقط عن كل شيء.

أنا أيضًا سأمر.

دعي لي هذا الرضا الهش، و قبليني ولا تفتعلي الحب عطفًا. فقد اكتفيت.