نزعة استهلاكية

كنت في السابعة عشر من عمري عندما تأكدت أن علاقتي بها لن تظل تلك الصداقة البريئة التي يتغامزون عنها و يمقتونها طوال الوقت. كان اكتشافاً كارثياً بحق. ها هي علاقة تقترب إلى حد الهوس و العوز المرضي، إن تماديت فيها تلوثت روحي إلى الأبد، و إن لم أفعل خبت تلك الروح إلى الأبد أيضاً. العدل في أن يتوحد الهوس و الإثم… الاختيار في وضع الجبر… لهذه الأسباب خلقت الفلسفة. و السفسطة أيضاَ.

على كلٍ، لم يكن الخيار مستحيلاً كما يبدو. يبدو أن الرجال العاقلين على مر العصور احتفظوا بتلك العلاقة الآثمة لأسبابٍ يرونها سامية. بالنسبة لي، أرى الأمر أبسط كثيراً من السمو. إنها تسعفني حيث لا يسعفني غيرها. إنها مفيدة هكذا. كما أنها تنفخ الأنا الخاصة بي بشكل خاص. قد تبدو لك أسباباً منحطة، لا يعنيني الأمر كثيراً، لكن الإنجليزية حقاً تسعفني.

نعم كنت أتحدث عن الإنجليزية.

Euphemism

لفظة بسيطة و معبرة. في العربية تصبح تعبيرات كثيرة كـ” السم في العسل”، ” الدناءة المؤدبة”، و الأكثر بلاغة ” تلبسون الحق بالباطل و تكتمون الحق و أنتم تعلمون”. كلمة طالما عبرت ببالي كلما ذكروا عيد الحب.

تستيقظ في الصباح الباكر، تتفحص محفظتك، تغتسل و تتهيأ و تتعطر، ثم تتفحص محفظتك، ثم تخرج متلفتاً و أنت تتحسس محفظتك، تذهب إلى محل العطور، ثم إلى محل الحُليّ، ثم إلى محل الشيكولاتة، ثم إلى محل الدببة اللطيفة المحشوة، ثم تتحسس محفظتك. تحمل غنيمتك في فخر و تذهب إلى فتاتك مزهواً لتشتري منها عواطف الامتنان و الفرح و الخجل أحياناً. لتشتري تلك الابتسامة المستحية، ثم تنطلقا إلى المطعم لتحشو بطنها بالطعام و تتظاهر بالكرم المتبذخ.

سيناريو آخر يحمل نفس الخطوات تقريباً، و لكن… ياللمفاجأة السعيدة، لقد اشترت لك هدية. يالسعادتك، إنها تفكر فيك! هي أيضاً قررت أن تشتري.

تتعدد السيناريوهات لهذا اليوم العالمي و تتبذل فيما لا يمكن سرده ولا حصره. تتعدد إلا أنها تشترك في عامل واحد. أننا نذهب للمحال الفاخرة و غير الفاخرة لنشتري الحب. لنشتري التعاطف، الذكريات، و الولاء. و المثير فعلاً أننا نقبل ببيعه أيضاً. نتقبله في فرح و حبور.

ثم نجلس و ندعوه عيد حبٍ. و نتحدث عن التجرد و التفاني، و نتغنى بالروحانية العاطفية، و عش الطير الذي يصبح جنة الفردوس، و نحن نتبلع قطع الجمبري و نتلذذ بالشيكولاتة السويسرية.

ألا يبدو هذا يوفيميزماً سخيفاً؟

ألا يبدو الأمر يوفيميزماً سخيفاً حقاً عندما تقف مراقباً بأحد المتاجر الضخمة لتجد المئات يتدفقون لشراء العلب الحمراء مختلفة المحتوى؟ نفس المئات التي تشتكي الغلاء و التضخم و البطالة و ضيق ذات اليد. أن يقاس الحب و الولاء و تتحقق تلك الرفرفة الخاطفة بالقلب على قدر ثقل الماسات و نقاء ذهب الحلى و سعر وجبة العشاء؟

يتعدى الأمر كونه يوفيميزماً سخيفاً إلى نفاقٍ صارخٍ صفيقٍ عندما تتحول ترنيمة صلاتنا المقدسة التي نرفعها في كل مناسبة و محفل، صلاتنا إلى شركات البضاعة الاستهلاكية سريعة الاحتراق، صلاة عبودية الاستهلاك تلك، تتحول إلى نبل و مشاعر مرهفة و .. عيد حب.

تلك صلاة لا تقبل أيها السادة. لِمَ لا نتصارح مع الإله الذي له نجأر؟ لِمَ لا تصبح قبلتنا واضحة المعالم؟ أهي مخزية إلى هذه الدرجة؟

يبدو أنه يوفيميزمٌ حلال. يصبح حلالاً عندما يستحل النفاق. عندما تصبح حتى تلك الصلاة نوعاً من قضاء الواجب. يصبح الحب يوفيميزماً عن الاستهلاكية، و عن الخنوع، و قضاء الواجب، و أشياء أخرى… أشياء ليست سامية بالمرة… أشياء منحطة تماماً. لكن الأمر لا يبدو أنه يعنينا.

كل عيد نزعة استهلاكية و أنتم طيبون… تذكروني في رمضان.

طظ

محجوب عبد الدايم

القاهرة 1930.